فصل: السنة الثامنة عشرة من سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب على مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 السنة الثامنة عشرة من سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب على مصر

وهي سنة أربع عشرة وستمائة‏.‏

فيها قدم الملك خوارزم شاه واسمه محمد ابن تكش إلى همذان بقصد بغداد في أربعمائة ألف مقاتل وقيل في ستمائة ألف فاستعد له الخليفة الناصر لدين الله وفرق المال والسلاح وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي في رسالة فأهانه واستدعاه وأوقفه إلى جانب تخته ولم يأذن له بالقعود‏.‏

قال أبو المظفر‏:‏ - ‏"‏ حكى الشهاب قال - استدعاني فأتيت إلى خيمة عظيمة لها دهليز لم أر في الدنيا مثله والدهليز والشقة أطلس والأطناب حرير وفي الدهليز ملوك العجم على اختلاف طبقاتهم‏:‏ صاحب همذان وأصبهان والري وغيرهم فدخلنا إلى خيمة أخرى إبريسم وفي دهليزها ملوك خراسان‏:‏ مرو ونيسابور وبلخ وغيرهم ثم دخلنا خيمة أخرى وملوك ما وراء النهر في دهليزها كذلك ثلاث خيام‏.‏

ثم دخلنا عليه وهو في خركاة عظيمة من ذهب وعليها سجاف مرصع بالجواهر‏.‏

وهو صبي له شعرات قاعد على تخت ساذج وعليه قباء بخاري يساوي خمسة دراهم وعلى رأسه قطعة من جلد تساوي درهمًا فسلمت عليه فلم يرد ولا أمرني بالجلوس فشرعت فخطبت خطبة بليغة ذكرت فيها فضل بني العباس ووصفت الخليفة بالزهد والورع والتقى والدين والترجمان يعيد عليه قولي‏.‏

فلما فرغت قال للترجمان‏:‏ قل له‏:‏ هذا الذي وصفته ما هو في بغداد‏.‏

قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ أنا أجيء وأقيم خليفة يكون بهذه الأوصاف‏.‏

ثم ردنا بغير جواب‏.‏

فنزل الثلج عليهم فهلكت دوابهم وركب خوارزم شاه يومًا فعثر به فرسه فتطير ووقع الفساد في عسكره وقفت الميرة‏.‏

وكان معه سبعون ألفًا من الخطا فرده الله ونكب تلك النكبة العظيمة ‏"‏‏.‏

وسنذكرها - إن شاء الله تعالى - في محلها‏.‏

وفيها توفي إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور الشيخ العماد المقدسي الزاهد القدوة الحنبلي أخو الحافظ عبد الغني ولد بجماعيل في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فهو أصغر من الحافظ عبد الغني بسنتين وسمع الكثيرة وكان إمامًا حافظًا عالمًا محدثًا زاهدًا عابدًا فقيهًا‏.‏

مات فجأة في ليلة الأربعاء سادس عشر ذي القعدة‏.‏

وفيها توفي عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن علي بن عبد الواحد أبو القاسم القاضي جمال الدين الحرستاني الأنصاري شيخ القضاة‏.‏

ولد بدمشق في سنة عشرين وخمسمائة ورحل وسمع الحديث وتفقه وكان إمامًا عفيفًا خطيبًا دينًا صالحًا‏.‏

له حكايات مع الملك المعظم عيسى في أحكامه - رحمه الله تعالى -‏.‏

وفيها توفي محمد بن أبي القاسم بن محمد أبو عبد الله الهكاري الأمير بدر الدين استشهد على حصن الطور وأبلى بلاء حسنًا ذلك اليوم وكان من المجاهدين له المواقف المشهودة في قتال الفرنج وكان من أكابر أمراء الملك المعظم كان يستشيره ويصدر عن رأيه ويثق له لصلاحه ودينه وكان سمحًا جوادًا‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي المحدث أبو الخطاب أحمد بن محمد البلنسي بمراكش‏.‏

وأبو الحسن علي بن محمد بن علي الموصلي أخو سليمان‏.‏

وأبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني البلنسي الأديب الإسكندراني بها وله أربع وسبعون سنة‏.‏

وقاضي القضاة أبو القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني في ذي الحجة وله أربع وتسعون سنة وأشهر‏.‏

والإمام عماد الدين إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي فجأة في ذي القعدة وله سبعون سنة‏.‏

والمحدث أبو محمد عبد الله بن عبد الجبار العثماني الإسكندراني الكارمي بمكة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعًا مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وسبع عشرة إصبعًا‏.‏

السنة التاسعة عشرة من سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي التي مات فيها العادل في جمادى الآخرة حسب ما تقدم ذكره‏.‏

وهي سنة خمس عشرة وستمائة‏.‏

وفيها نزلت الفرنج على دمياط في شهر ربيع الأول وكان العادل بمرج الصفر فبعث بالعساكر التي كانت معه إلى مصر إلى ولده الكامل وأقام المعظم بالساحل بعسكر الشام في مقابلة الفرنج ليشغلهم عن دمياط‏.‏

وفيها استدعى الملك العادل صاحب الترجمة ابنه الملك المعظم المقدم ذكره وقال له‏:‏ قد بنيت هذا الطور وهو يكون سببًا لخراب الشام وقد سلم الله من كان فيه من أبطال المسلمين وسلاح الدنيا والذخائر وأرى من المصلحة خرابه ليتوفر من فيه من المسلمين والعمد على حفظ دمياط وأنا أعوضك عنه فتوقف المعظم وبقي أيامًا لا يدخل إلى أبيه العادل فبعث إليه العادل ثانيًا وأرضاه بالمال ووعده في مصر ببلاد فأجاب المعظم وبعث ونقل ما كان فيه‏.‏

وفيها في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر كسر الملك الأشرف موسى صاحب خلاط وديار بكر وحلب ابن الملك العادل هذا ملك الروم كيكاوس‏.‏

وفيها أيضا بعث الأشرف المذكور بالأمير سيف الدين بن كهدان والمبارز ابن خطلج بجماعة من العساكر نجمة إلى أخيه الملك الكامل بدمياط كل ذلك والقتال عمال بين الملك الكامل والفرنج على ثغر دمياط‏.‏

وفيها في آخر جمادى الأولى أخذ الفرنج برج السلسلة من الكامل فأرسل الكامل شيخ الشيوخ صدر الدين إلى أبيه العادل وأخبره فدق العادل بيده على صدره ومرض من قهره مرض الموت‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة التقى الملك المعظم الفرنج بساحل الشام وقاتلهم فنصره الله عليهم وقتل منهم مقتلة وأسر من الداوية مائة فارس وأدخلهم القدس منكسي الأعلام‏.‏

وفيها وصل رسول خوارزم شاه إلى الملك العادل هذا وهو بمرج الصفر فبعث بالجواب الخطيب الدولعي ونجم الدين خليل ابن علي الحنفي قاضي العسكر فوصلا همذان فوجدا الخوارزمي قد اندفع بين يحيى الخطا والتتار وقد خامر عليه عسكره فسارا إلى حد بخارى فاجتمعا بولده الملك جلال الدين فأخبرهما بوفاة العادل صاحب الترجمة مرسلهما فرجعا إلى دمشق‏.‏

وفيها حج بالناس من بغداد أقباش الناصري‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن الحسين أبو القاسم عماد الدين الدامغاني الحنفي قاضى القضاة ببغداد ومولده في شهر رجب سنة أربع وستين وخمسمائة‏.‏

وكان له صمت ووقار ودين وعصمة وعفة وسيرة حسنة مع العلم والفضل وكانت وفاته في ذي القعدة ودفن بالشونيزية‏.‏

وفيها توفي كيكاوس الأمير عز الدين صاحب الروم كان جبارًا ظالمًا سفاكًا للدماء ولما عاد إلى بلده من كسرة الأشرف موسى اتهم أقوامًا من أمراء دولته أنهم قصروا في قتال الحلبيين وسلق منهم جماعة في القدور وجعل آخرين في بيت وأحرقه فأخذه الله بغتة‏.‏

ومات سكران فجأة وقيل‏:‏ بل ابتلي في بدنه وتقطعت أوصاله‏.‏

وكان أخوه علاء الدين كيقباد محبوسًا في قلعة وقد أمر كيكاوس بقتله فبادروا وأخرجوه وأقاموه في الملك‏.‏

وكانت وفاة كيكاوس في وفيها توفي خوارزم شاه واسمه محمد بن تكش بن إيل أرسلان بن أتسز بن محمد بن أنوشتكين السلطان علاء الدين المعروف بخوارزم شاه‏.‏

قال ابن واصل‏:‏ نسبه ينتهي إلى إيلتكين أحد مماليك السلطان ألب أرسلان بن طغرلبك السلجوقي وكانت سلطنة خوارزم شاه المذكور في سنة ست وتسعين وخمسمائة عند موت والده السلطان علاء الدين تكش‏.‏

وقال عز الدين بن الأثير‏:‏ كان صبورًا على التعب وإدمان السير غير متنعم ولا مقبل على اللذات إنما همته في الملك وتدبيره وحفظه وحفظ رعيته وكان فاضلًا عالمًا بالفقه وغيرهما وكان مكرمًا محبًا لهم محسنًا إليهم يحب مناظرتهم بين يديه ويعظم أهل الدين ويتبرك بهم‏.‏

- قلت‏:‏ وهذا بخلاف ما ذكره أبو المظفر مما حكاه عن الشيخ شهاب الدين السهروردي لما توجه إلى خوارزم شاه هذا رسولًا من قبل الخليفة الناصر لدين الله فإنه ذكر عنه أشياء من التكبر والتعاظم عليه وعدم الالتفات له وإنه صار لا يفهم كلام السهروردي إلا بالترجمان ولعله كان فعل ذلك لإظهار العظمة وهو نوع من تجاهل العارف -‏.‏

قال‏:‏ وكان أعظم ملوك الدنيا واتسعت ممالكه شرقًا وغربًا وهابته الملوك حتى لم يبق إلا من دخل تحث طاعته وصار من عسكره‏.‏

ومحق أبوه التتار بالسيف وملك منهم البلاد‏.‏

ووقع له أمور طويلة حتى إنه نزل همذان وكان في عسكره سبعون ألفًا من الخطا فكاتب القمي عساكره ووعدهم بالبلاد فاتفقوا مع الخطا على قتله‏.‏

وكان خاله من الخطا وحلفوه إلا يطلعه على ما دبروا عليه فجاء إليه في الليل وكتب في يده صورة الحال فقام وخرج من وقته ومعه ولداه‏:‏ جلال الدين وآخر ولما خرج من الخيمة دخل الخطا والعساكر من بابها ظنًا منهم أنه فيها فلم يجدوه فنهبوا الخزائن يقال‏:‏ إنه كان في خزائنه عشرة آلاف ألف دينار وألف حمل قماش أطلس وعشرون ألف فرس وبغل وكان له عشرة آلاف مملوك فتمزق الجميع وهرب ولداه إلى الهند وهرب خوارزم شاه إلى الجزيرة وفيها قلعة ليتحصن بها فمات دون طلوع القلعة المذكورة في هذه السنة وقيل‏:‏ في سنة سبع عشرة وستمائة‏.‏

والله أعلم‏.‏

وفيها توفي الملك القاهر عز الدين مسعود ابن أرسلان بن مسعود بن مودود ابن زنكي أبو الفتح صاحب الموصل وترك ولدًا صغيرًا اسمه محمود فأخرج الأمير بدر الدين لؤلؤ زنكي أخا القاهر من الموصل واستولى عليها ودبر مملكة محمود المذكور‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي الشهاب فتيان بن علي الشاغوري الأديب‏.‏

وصاحب الروم السلطان عز الدين كيكاوس وولي بعده علاء الدين أخوه‏.‏

وصاحب الموصل عز الدين مسعود بن أرسلان شاه الأتابكي‏.‏

وصاحب مصر وغيرها السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب في جمادى الآخرة عن سبع وسبعين سنة‏.‏

وأبو الفتوح محمد بن محمد بن محمد بن عمروك البكري النيسابوري الصوفي في جمادى الآخرة وهو في عشر المائة‏.‏

والشمس أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد السلمي العطار في شعبان‏.‏

والحافظ أبو العباس أحمد بن أحمد بن أحمد بن كرم البندنيجي في رمضان عن أربع وسبعين سنة سمع ابن الزاغوبي‏.‏

وأم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الشعرية ولها إحدى وتسعون سنة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وست أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وست أصابع‏.‏

سلطنة الملك الكامل على مصر أعني بذلك استقلالًا بعد وفاة أبيه العادل لأن الكامل هذا كان متولي سلطنة مصر في حياة والده العادل لما قسم العادل الممالك في أولاده من سنين عديدة أعطى المعظم عيسى دمشق وأعطى الأشرف موسى الشرق وأعطى الملك الكامل محمدًا هذا مصر وصار هو يتنقل في ممالك أولاده والعمدة في كل الممالك عليه إلى أن مات الملك العادل تفرد الملك الكامل محمد بالخطبة في ديار مصر وأعمالها واستقل بأمورها وتدبير أحوالها وذلك من يوم وفاة والده الملك إلى المذكور وهو من يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم نسب الملك الكامل هذا في ترجمة عمه السلطان صلاح الدين واستوعبنا ذلك من عدة أقوال وحررناه فلينظر هناك‏.‏

قال أبو المظفر‏:‏ ‏"‏ ولد الكامل سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود وكان العادل قد عهد إليه لما رأى من ثباته وعقله وسداده‏.‏

وكان شجاعًا ذكيًا فطنًا يحب العلماء والأماثل ويلقي عليهم المشكلات ويتكلم على صحيح مسلم بكلام مليح ويثبت بين يدي العدو‏.‏

وأما عدله فإليه المنتهى ‏"‏ انتهى كلام أبي المظفر باختصار‏.‏

وقال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبي في تاريخ الإسلام‏:‏ ‏"‏ الملك الكامل محمد السلطان ناصر الدين أبو المعالي وأبو المظفر ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب بن شادي صاحب مصر‏.‏

ولد بمصر سنة ست وسبعين وخمسمائة ‏"‏‏.‏

- قلت‏:‏ وهذا بخلاف ما نقله أبو المظفر في سنة مولده وعندي أن أبا المظفر أثبت لصحبته بأخيه المعظم عيسى وكونه أيضًا عصري الملك الكامل هذا -‏.‏

والله أعلم‏.‏

قال أعني الذهبي‏:‏ وأجاز له العلامة عبد الله بن بري وأبو عبد الله ابن صدقة الحراني وعبد الرحمن بن الخرقي قرأت بخط ابن مسدي في معجمه‏:‏ كان الكامل محبًا للحديث وأهله حريصًا على حفظه ونقله وللعلم عنده شرف خرج له أبو القاسم بن الصفراوي أربعين حديثًا وسمعها جماعة‏.‏

وحكى لي عنه مكرم الكاتب أن أباه العادل استجاز له السلفي قبل موت السلفي بأيام قال ابن المسدي‏:‏ ثم وقفت أنا على ذلك وأجاز لي ‏"‏ و ‏"‏ لابني‏.‏

قال الذهبي‏:‏ وتملك الديار المصرية أربعين سنة شطرها في أيام والده‏.‏

وقيل‏:‏ بل ولد في ذي القعدة سنة خمس وسبعين‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قول ثالث في مولده‏.‏

وقال الحافظ عبد العظيم المنذري استادار الحديث بالقاهرة يعني بذلك المدرسة الكاملية ببين القصرين‏.‏

قال‏:‏ وعمر القبة على ضريح الشافعي وأجرى الماء من بركه الحبش إلى حوض السبيل والسقايه وهما على باب القبة المذكورة ووقف غير ذلك من الوقوف على أنواع من أعمال البر بمصر وغيرها‏.‏

وله المواقف المشهودة في الجهاد بدمياط المدة الطويلة وأنفق الأموال الكثيرة وكافح العدو المخذول برًا وبحرًا ليلًا ونهارًا‏.‏

يعرف ذلك من مشاهده‏.‏

ولم يزل على ذلك حتى أعز الله الإسلام وأهله وخذل الكفر وأهله وكان معظمًا للسنة النبوية وأهلها راغبًا في نشرها والتمسك بها مؤثرًا الاجتماع مع العلماء والكلام معهم حضرًا وسفرًا‏.‏

انتهى كلام المنذري باختصار‏.‏

وقال القاضي شمس الدين ابن خلكان في تاريخه بعد ما ساق نسبه وذكره نحوًا مما ذكرناه حتى قال‏:‏ ‏"‏ ولما وصل الفرنج إلى دمياط كما تقدم ذكره كان الملك الكامل في مبدأ استقلاله بالسلطنة وكان عنده جماعة كثيرة من أكابر الأمراء منهم‏:‏ عماد الدين أحمد بن المشطوب فاتفقوا مع أخيه الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل وانضموا إليه فظهر للملك الكامل منهم أمور تدل على أنهم عازمون على تفويض الملك إليه وخلع الكامل واشتهر ذلك بين الناس وكان الملك الكامل يداريهم لكونه في قبالة العدو ولا يمكنه المقاهرة وطول روحه معهم ولم يزل على ذلك حتى وصل إليه أخوه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق يوم الخميس تاسع عشر ذي القعدة من سنة خمس عشرة وستمائة فأطلعه الكامل في الباطن على صورة الحال وأن رأس هذه الطائفة ابن المشطوب فجاءه يومًا على غفلة في خيمته واستدعاه فخرج إليه فقال له‏:‏ أريد أن أتحدث أمعك سرًا في خلوة فركب فرسه يعني ابن المشطوب‏.‏

وسار معه جريدة وقد خرد المعظم جماعة ممن يعتمد عليهم ويثق إليهم وقال لهم‏:‏ اتبعونا‏.‏

ولم يزل المعظم يشغله بالحديث ويخرج معه من شيء إلى شيء حتى أبعد عن المخيم ثم قال له‏:‏ يا عماد الدين هذه البلاد لك ونشتهي أن تهبها لنا ثم أعطاه شيئًا من النفقة وقال لأولئك المجردين‏:‏ تسلموه حتى تخرجوه من الرمل فلم يسعه إلا الامتثال لانفراده وعدم القدرة على الممانعة في تلك الحال ثم عاد المعظم إلى أخيه الملك الكامل وعرفه صورة ما جرى‏.‏

ثم جهز أخاه الملك الفائز المذكور إلى الموصل لإحضار النجدة منها ‏"‏ و ‏"‏ من بلاد الشرق فمات بسنجار‏.‏

وكان ذلك خديعة لإخراجه من البلاد‏.‏

فلما خرج هذان الشخصان من العسكر تحللت عزائم من بقي من الأمراء الموافقين لهما ودخلوا في طاعة الملك الكامل كرهًا لا طوعًا‏.‏

وجرى في قصة دمياط ما هو مشهور فلا حاجة للإطالة في ذكره‏.‏

ولما ملك الفرنج دمياط وصارت في أيديهم خرجوا منها قاصدين القاهرة ومصر ونزلوا في رأس الجزيرة التي دمياط في برها وكان المسلمون قبالتهم في القرية المعروفة بالمنصورة والبحر حائل بينهم وهو بحر أشموم ونصر الله - سبحانه وتعالى - بمنه وجميل لطفه المسلمين عليهم كما هو مشهور ورحل الفرنج عن منزلتهم ليلة الجمعة سابع رجب سنة ثماني عشرة وستمائة وتم الصلح بينهم وبين المسلمين في حادي عشر الشهر المذكور ورحل الفرنج عن البلاد في شعبان من السنة المذكورة وكانت مدة إقامتهم في بلاد الإسلام ما بين الشام والديار المصرية أربعين شهرًا وأربعة عشر يومًا وكفى الله - تعالى - المسلمين شرهم والحمد لله على ذلك‏.‏

- قلت ونذكر أمر دمياط من كلام أبي المظفر في آخر هذه الترجمة بأوسع من ذلك لأنه معاصر الكامل وصاحب المعظم فهو أجدر بهذه الواقعة -‏.‏

فلما استراح خاطر الملك الكامل من جهة هذا العدو تفرغ للأمراء الذين كانوا متحاملين عليه فنفاهم عن البلاد وبدد شملهم وشردهم ودخل القاهرة وشرع في عمارة البلاد واستخراج الأموال من جهاتها وكان سلطانًا عظيم القدر جميل الذكر محبًا للعلماء متمسكًا بالسنة حسن الاعتقاد معاشرًا لأرباب الفضائل حازمًا في أموره لا يضع الشيء إلا في مواضعه من غير إسراف ولا إقتارة وكان يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء يشاركهم في مباحثهم ويسألهم عن المواضع المشكلة في كل فنٍ وهو معهم كواحد منهم وكان - رحمه الله - يعجبه هذان البيتان وينشدهما كثيرًا وهما‏:‏ ما كنت من قبل ملك قلبي تصد عن مدنفٍ حزين وإنما قد طمعت لما حللت في موضع حصين قال‏:‏ ولما مات أخوه الملك المعظم عيسى صاحب الشام وقام ابنه الملك الناصر صلاح الدين داود مقامه خرج الملك الكامل من الديار المصرية قاصدًا أخذ دمشق منه وجاءه أخوه الملك الأشرف مظفر الدين موسى واجتمعا على أخذ دمشق بعد فصول يطول شرحها‏.‏

وملك الكامل دمشق في أول شعبان سنة ست وعشرين وستمائة وكان يوم الاثنين فلما ملكها دفعها لأخيه الملك الأشرف وأخذ عوضها من بلاد الأشرف‏:‏ حران والرها وسروج والرقة ورأس العين توجه إليها بنفسه في تاسع شهر رمضان من السنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ واجتزت بحران في شوال سنة ست وعشرين وستمائة والملك الكامل مقيم به بعساكر الديار المصرية وجلال الدين خوارزم شاه يوم ذاك محاصر لخلاط وكانت لأخيه الملك الأشرف ثم رجع إلى الديار المصرية‏.‏

ثم تجهز في جيش عظيم وقصد آمد في سنة تسع وعشرين وستمائة فأخذها مع حصن كيفا والبلاد من الملك المسعود ركن الدين مودود بن الملك الصالح أبي الفتح محمود بن نور الدين محمد بن فخر الدين قرا أرسلان بن ركن الدولة داود بن نور الدولة سقمان ويقال سكمان بن أرتق قال‏:‏ ثم مات أخوه الملك الأشرف وجعل ولي عهده أخاه الملك الصالح إسماعيل بن العادل فقصده الملك الكامل أيضًا وانتزع منه دمشق بعد مصالحة جرت بينهما في التاسع من جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وستمائة وأبقى له بعلبك وأعمالها وبصرى وأرض السواد وتلك البلاد‏.‏

ولما ملك البلاد المشرقية وآمد وتلك النواحي استخلف فيها ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب واستخلف ولده الأصغر الملك العادل سيف الدين أبا بكر بالديار المصرية‏.‏

وقد تقدم في ترجمة الملك العادل أنه سير ولده الملك المسعود أقسيس إلى اليمن وكان أكبر أولاد الملك الكامل‏.‏

وملك الملك المسعود مكة - حرسها الله تعالى - وبلاد الحجاز مضافة إلى اليمن وكان رحيل الملك المسعود من الديار المصرية متوجهًا إلى اليمن في يوم الاثنين سابع عشر رمضان سنة إحدى عشرة وستمائة ودخل مكة في ثالث ذي القعدة من السنة وخطب له بها وحج ودخل زبيد وملكها مستهل المحرم سنة اثنتي عشرة وستمائة‏.‏

ثم ملك مكة في شهر ربيع الآخر سنة عشرين وستمائة أخذها من الشريف حسن بن قتادة الحسني‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكرنا خروج الملك المسعود إلى اليمن من وقته في ترجمة جده الملك العادل‏.‏

وتوفي الملك المسعود في حياة والده الملك الكامل بمكة في ثالث جمادى الأولى سنة ست وعشرين وستمائة‏.‏

وكان مولده في سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأظنه أكبر أولاد الكامل‏.‏

والله أعلم‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ واتسعت المملكة للملك الكامل ولقد حكى لي من حضر الخطبة يوم الجمعة بمكة أنه لما وصل الخطيب إلى الدعاء للملك الكامل قال‏:‏ صاحب مكة وعبيدها واليمن وزبيدها ومصر وصعيدها والشام وصناديدها والجزيرة ووليدها سلطان القبلتين ورب العلامتين وخادم الحرمين الشريفين الملك الكامل أبو المعالي ناصر الدين محمد خليل أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ ولقد رأيته بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة عند رجوعه من بلاد المشرق واستنقاذه إياها من الأمير علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود ابن قليج أرسلان بن سليمان ابن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق السلجوقي صاحب الروم وهي وقعة مشهورة يطول شرحها وفي خدمته يومئذ بضعة عشر ملكًا منهم أخوه الملك الأشرف‏.‏

ولم يزل في علو شأنه وعظيم سلطانه إلى أن مرض بعد أخذه دمشق ولم يركب وكان ينشد في مرضه كثيرًا‏:‏ يا خليلي خبراني بصدق كيف طعم الكرى فإني نسيته ولم يزل كذلك إلى أن توفي يوم الأربعاء بعد العصر ودفن بالقلعة بمدينة دمشق يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة وأنا بدمشق يومئذ وحضرت الصيحة يوم السبت في جامع دمشق لأنهم أخذوا موته إلى وقت صلاة الجمعة فلما أحضرت الصلاة قام بعض الدعاة على العريش بين يدي المنبر وترحم على الملك الكامل ودعا لولده الملك العادل صاحب مصر وكنت حاضرًا في ذلك الموضع فضج الناس ضجة واحدة وكانوا قد أحسوا بذلك لكنهم لم يتحققوه إلا ذلك اليوم‏.‏

وترتب ابن أخيه الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين مودود ابن الملك العادل في نيابة السلطنة بدمشق عن الملك العادل بن الكامل صاحب مصر باتفاق الأمراء الذين كانوا حاضرين ذلك الوقت بدمشق‏.‏

ثم بني له تربة مجاورة للجامع ولها شباك إلى الجامع ونقل إليها‏.‏

قال‏:‏ وأما ولده الملك العادل فإنه أقام في المملكة إلى يوم الجمعة ثامن ذي القعدة من سنة سبع وثلاثين وستمائة فقبض عليه أمراء دولته بظاهر بلبيس ‏"‏‏.‏

انتهى كلام ابن خلكان على جليته‏.‏

ونذكر أيضًا من أحوال الكامل نبذة جيدة من أقوال غيره من المؤرخين‏.‏

إن شاء الله تعالى‏.‏

قال بعضهم‏:‏ كان الملك الكامل فاضلًا عالمًا شهمًا مهيبًا عاقلًا محبًا للعلماء وله شعر حسن واشتغال في العلم‏.‏

قيل‏:‏ إنه شكا إليه ركبدار أستاذه بأنه استخدمه ستة أشهر بلا جامكية فأنزل أستاذه من فرسه وألبسه ثياب الركبدار وألبس الركبدار ثيابه وأمره بخدمة الركبدار وحمل مداسه ستة أشهر حتى شفع وكانت الطرق آمنة في زمانه‏.‏

ولما بعث ابنه الملك المسعود أقسيس وافتتح اليمن والحجاز ثم مات قبله كما ذكرناه ورث منه أموالًا عظيمة ففرق غالبها في وجوه البر والصدقات‏.‏

وكانت راية الملك الكامل صفراء‏.‏

وفيه يقول البهاء زهير - رحمه الله تعالى -‏.‏

بك اهتز عطف الدين في حلل النصر وردت على أعقاب ملة الكفر وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى لما حلمت إلا بأعلامك الضفر ثلاثة أعوام أقمت وأشهرًا تجاهد فيهم لا بزيد ولا عمرو وليلة نفر للعدو رأيتها بكثرة من أرديته ليلة النحر وقال‏:‏ وكان فيه جبروت مع سفك الدماء‏.‏

وذكر الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم الجزري‏:‏ أن عماد الدين يحيى البيضاوي الشريف قال‏:‏ حكى لي الخادم الذي للكامل قال‏:‏ طلب مني الكامل طستا حتى يتقيأ فيه فأحضرته وكان الملك الناصر داود على الباب جاء ليعود عمه الكامل فقلت‏:‏ داود على الباب فقال‏:‏ ينتظر موتي فانزعج فخرجت وقلت‏:‏ ما ذاك وقتك‏.‏

السلطان منزعج فنزل إلى داره ودخلت إلى السلطان فوجدته قد قضى والطست بين يديه وهو مكبوب على المخدة‏.‏

وقال ابن واصل‏:‏ حكى لي طبيبه قال‏:‏ أصابه لما دخل قلعة دمشق زكام فدخل الحمام وصب على رأسه ماء شديد الحرارة اتباعًا لقول محمد بن زكريا الرازي في كتاب سماه ‏"‏ طب ساعة ‏"‏ قال فيه‏:‏ من أصابه زكام وصب على رأسه ماء شديد الحرارة انحل زكامه لوقته وهو لا ينبغي أن يعمل على إطلاقه قال الطبيب‏:‏ فانصب من دماغه إلى فم معدته فتورمت وعرضت له حمى شديدة وأراد القيء فنهاه الأطباء وقالوا‏:‏ إن تقيأ هلك فخالفهم وتقيأ فهلك لوقته‏.‏

قال ابن واصل‏:‏ وحكى لي الحكم رضي الدين قال‏:‏ عرض له خوانيق وتقيأ دمًا كثيرًا ومدة فأراد القيء أيضًا فنهاه موفق الدين إبراهيم وأشار عليه بعض الأطباء بالقيء فتقيأ فانصبت وقال ابن واصل‏:‏ وكان ملكًا جليلًا حازمًا سديد الآراء حسن التدبير لممالكه عفيفًا حليمًا عمرت في أيامه الديار المصرية عمارة كبيرة وكان عنده مسائل غريبة من الفقه والنحو يوردها فمن أجابه حظي عنده‏.‏

@ أخذ دمياط قال أبو المظفر في تاريخه‏:‏ ‏"‏ في شعبان أخذ الفرنج دمياط وكان المعظم قد جهز إليها الناهض بن الجرخي في خمسمائة راجل فهجموا على الخنادق فقتل ابن الجرخي ومن كان معه وصفوا رؤوس القتلى على الخنادق وكان الفرنج قد طموها يعني الخنادق وضعف أهل دمياط وأكلوا الميتات وعجز الملك الكامل عن نصرتهم ووقع فيهم الوباء والفناء فراسلوا الفرنج على أن يسلموا إليهم البلد ويخرجوا منه بأموالهم وأهلهم واجتمعوا وحلفوهم على ذلك فركبوا في المراكب وزحفوا في البر والبحر وفتح لهم أهل دمياط الأبواب فدخلوا ورفعوا أعلامهم على السور وغدروا بأهل دمياط ووضعوا فيهم السيف قتلًا وأسرًا وباتوا تلك الليلة بالجامع يفجرون بالنساء ويفتضون البنات وأخذوا المنبر والمصاحف ورؤوس القتلى وبعثوا بها إلى الجزائر وجعلوا الجامع كنيسة وكان أبو الحسن ابن قفل بدمياط فسألوا عنه فقيل لهم‏:‏ هذا رجل صالح من مشايخ المسلمين يأوي إليه الفقراء فما تعرضوا له‏.‏

ووقع على المسلمين كآبة عظيمة‏.‏

وبكى الكامل والمعظم بكاءً شديدًا ثم تأخرت العساكر عن تلك المنزلة‏.‏

ثم قال الكامل لأخيه المعظم‏:‏ قد فات المطلوب وجرى المقدر بما هو كائن وما في مقامك هاهنا فائدة والمصلحة أن تنزل إلى الشام تشغل خواطر الفرنج وتستجلب العساكر من بلاد الشرق‏.‏

قال أبو المظفر‏:‏ فكتب المعظم إلي وأنا بدمشق كتابًا بخطه يقول - في أوله -‏:‏ قد علم الأخ العزيز بأن قد جرى على دمياط ما جرى وأريد أن تحرض الناس على الجهاد وتعرفهم ما جرى على إخوانهم أهل دمياط من الكفرة أهل العناد‏.‏

وإني كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفي قرية منها ألف وستمائة أملاك لأهلها وأربعمائة سلطانية وكم مقدار ما تقوم به هذه الأربعمائة من العساكر وأريد أن تخرج الدماشقة ليذبوا عن أملاكهم الأصاغر منهم والأكابر‏.‏

ويكون لقاؤنا وهم صحبتك إلى نابلس في وقت سماه‏.‏

قال‏:‏ فجلست بجامع دمشق وقرأت كتابه عليهم فأجابوا بالسمع والطاعة وقالوا‏:‏ نمتثل أمره بحسب الاستطاعة‏.‏

وتجهزوا فلما حل ركابه بالساحل وقع التقاعد وكان تقاعدهم سببًا لأخذه الثمن والخمس من أموالهم‏.‏

وكتب إلي يقول‏:‏ إذا لم يخرجوا فسر أنت إلينا فخرجت إلى الساحل وهو نازل على قيسارية فأقمنا حتى فتحها عنوة ثم سرنا إلى النفر ففتحه وهدمه وعاد إلى دمشق بعد أن أخرج العساكر إلى السواحل‏.‏

واستمر الملك الكامل على مقاتلة الفرنج إلى أن فتح الله عليه في سنة ثماني عشرة وستمائة وطلب من إخوته النجدة وتوجه المعظم في أول السنة إلى أخيه الأشرف موسى واجتمعا على حران‏.‏

وكتب صاحب ماردين إلى الأشرف يسأله أن يصعد المعظم إليه فسأله فسار إلى ماردين فتلقاه صاحب ماردين من دنيسر وأصدمه إلى القلعة وخدمه خدمة عظيمة وقدم له التحف والجواهر وتحالفا واتفقا على ما أرادا ثم عاد المعظم إلى أخيه الأشرف‏.‏

وجاء خبر دمياط‏.‏

وكان المعظم أحرص الناس على خلاص دمياط والغزاة وكان مصافيًا لأخيه الكامل وكان الأشرف مقصرًا في حق الكامل مباينًا له في الباطن فلما اجتمعت العساكر على حران قطع بهم المعظم الفرات وسار الأشرف في آثاره ونزل المعظم حمص والأشرف سلمية‏.‏

قال‏:‏ وكنت قد خرجت من دمشق إلى حمص لطلب الغزاة فإنهم كانوا على عزم الدخول إلى طرابلس فاجتمعت بالمعظم في شهر ربيع الآخر فقال لي‏:‏ قد سحبت الأشرف إلى هاهنا وهو كاره وكل يوم أعتبه في تأخره وهو يكاسر وأخاف من الفرنج أن يستولوا على مصر وهو صديقك وأشتهي أن تقوم تروح إليه فقد سألني عنك مرارًا ثم كتب إلى أخيه كتابًا بخطه نحو ثمانين سطرًا فأخذته ومضيت إلى سلمية وبلغ الأشرف وصولي فخرج من الخيمة وتلقاني وعاتبني على انقطاعي عنه وجرى بيني وبينه فصول وقلت له‏:‏ المسلمون في ضائقة وإذا أخذ الفرنج الديار المصرية ملكوا إلى حضرموت وعفوا آثار مكة والمدينة والشام وأنت تلعب قم الساعة وارحل فقال‏:‏ ارموا الخيام والدهليز وسبقته إلى حمص فتلقاني المعظم وقال‏:‏ ما نمت البارحة ولا أكلت اليوم شيئًا فقلت‏:‏ غدا يصبح أخوك الأشرف حمصي‏.‏

فلما كان من الغد أقبلت الأطلاب وجاء طلب الأشرف والله ما رأيت أجمل منه ولا أحسن رجالًا ولا أكمل عدة وسر المعظم سرورًا عظيمًا وجلسوا تلك الليلة يتشاورون فاتفقوا على الدخول في السحر إلى طرابلس وكانوا على حال فأنطق الله الملك الأشرف من غير قصد وقال للمعظم‏:‏ يا خوند عوض ما ندخل الساحل وتضعف خيلنا وعساكرنا ويضيع الزمان ما نروح إلى دمياط ونستريح فقال له المعظم - قول رماة البندق قال -‏:‏ نعم فقبل المعظم قدمه ونام الأشرف فخرج المعظم من الخيمة كالأسد الضاري يصيح‏:‏ الرحيل الرحيل إلى دمياط وما كان يظن أن الأشرف يسمح بذلك وساق المعظم إلى دمشق وتبعته العساكر ونام الأشرف في خيمته إلى قرب الظهر وانتبه فدخل الحمام فلم ير حول خيمته أحدًا فقال‏:‏ وأين العساكر فأخبروه الخبر فسكت وساق إلى دمشق فنزل القصير يوم الثلاثاء رابع جمادى الأولى فأقام إلى سلخه وعرض العساكر تحت قلعة دمشق وكان هو وأخوه المعظم في الطيارة بقلعة دمشق وساروا إلى مصر‏.‏

وأما الفرنج فإنهم خرجوا بالفارس والراجل وكان البحر زائدًا جدًا فجاؤوا إلى ترعة فأرسوا عليها وفتح المسلمون عليهم الترع من كل مكان وأحدق بهم عساكر الكامل فلم يبق لهم وصول إلى دمياط وجاء أسطول المسلمين فأخذوا مراكبهم ومنعوهم أن تصل إليهم الميرة من دمياط وكانوا خلقًا عظيمًا وانقطعت أخبارهم عن دمياط وكان فيهم مائة كند وثمانمائة من الخيالة المعروفين وملك عكا والدوك واللوكان نائب البابا ومن الرجالة ما لا يحصى فلما عاينوا الهلاك أرسلوا إلى الكامل يطلبون الصلح والرهائن ويسلمون دمياط فمن حرص الكامل على خلاص دمياط أجابهم ولو أقاموا يومين أخذوا برقابهم فبعث إليهم الكامل ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وابن أخيه شمس الملوك وجاء ملوكهم إلى الكامل ممن سمينا فالتقاهم وأنعم عليهم وضرب لهم الخيام‏.‏

ووصل المعظم والأشرف في تلك الحال إلى المنصورة في ثالث رجب فجلس الكامل مجلسًا عظيمًا في خيمة كبيرة عالية وقد مد سماطًا عظيمًا وأحضر ملوك الفرنج ووقف المعظم والأشرف والملوك في خدمته وقام الحلي الشاعر - رحمه الله تعالى - فأنشد‏:‏ هنيئًا فإن السعد راح مخلدًا وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا حبانا إله الخلق فتحًا بدا لنا مبينًا وإنعامًا وعزًا مؤيدا ولما طغى البحر الخضم بأهله ال - - طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا أقام لهذا الدين من سل سيفه صقيلًا كما سل الحسام مجردا فلم ينج إلا كل شلو مجدلٍ ثوى منهم أو من تراه مقيدا ونادى لسان الكون في الأرض رافعًا عقيرته في الخافقين ومنشدا أعباد عيسى إن عيسى وحزبه وموسى جميعًا يخدمون محمدا وهذا من أبيات كثيرة‏.‏

قلت‏:‏ صح للشاعر فيما قصد من التورية في المعظم عيسى والأشرف موسى لما وقفا في خدمة العامل محمد فلله دره‏!‏ لقد أجاد فيما قال‏.‏

ووقع الصلح بين الملك الكامل وبين الفرنج في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب سنة ثماني عشرة وستمائة وسار بعض الفرنج في البر وبعضهم في البحر إلى عكا وتسلم الكامل دمياط‏.‏

قلت‏:‏ ويعجبني قول البارع كمال الدين علي بن النبيه في مدح مخدومه الملك الأشرف موسى لما حضر مع أخيه المعظم إلى دمياط في هذه الكائنة قصيدته التي أولها‏:‏ للذة العيش والأفراح أوقات فانشر لواءً له بالنصر عادات إلى أن قال منها‏:‏ ألق العصا تتلقف كل ما صنعوا ولا تخف ما حبال القوم حيات وقي قصيدة طويلة مثبتة في ديوان ابن النبيه‏.‏

قال أبو المظفر‏:‏ قال فخر الدين ابن شيخ الشيوخ‏:‏ حضر الفرنج دمياط صعد الكامل على مكان عالٍ وقال لي‏:‏ ما ترى ما أكثر الفرنج‏!‏ ما لنا بهم طاقة فقلت‏:‏ أعوذ بالله من هذا الكلام قال‏:‏ ولم‏.‏

قلت لأن السعد موكل بالمنطق قال‏:‏ فأخذت الفرنج دمياط بعد قليل فلما طال الحصار صعد يومًا على مكان عال وقال‏:‏ يا فلان ترى الفرنج ما أقلهم‏!‏ والله ما هم شيء فقلت‏:‏ أخذتهم والله قال‏:‏ وكيف قلت‏:‏ قلت في يوم كذا وكذا‏:‏ كذا وكذا فأخذوا دمياط وقد قلت اليوم‏:‏ كذا والملوك منطقون بخير وشرة فأخذ دمياط بعد قليل ‏"‏‏.‏

انتهى‏.‏

وقد تقدم ذكر الكامل في أوائل الترجمة من قول جماعة من المؤرخين ويأتي أيضًا - من ذكره في السنين المتعلقة به - نبذة كبيرة إن شاء الله تعالى‏.‏

والله الموفق لذلك بمنه وكرمه‏.‏